حفظ الأسرار
تعد المحافظة على الأسرار خاصية إنسانية في العلاقات الاجتماعية؛ من حيث تعامل الفرد مع الآخرين، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، والأسرار لها أهمية كبيرة في الأمم، فهي من أعظم أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح.
ومن هنا فرعاية الإسلام للمحافظة على الأسرار يستهدف من ورائها تكوين المجتمع الإسلامي، ووضع التشريعات الضابطة لحماية العلاقات وتنميتها أمر لازم لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المعنوية.
ولو أُهملت المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، وسُمح للخيانة وفشو الأسرار بالانتشار؛ لزالت المعاني الإنسانية، كالأمانة وكتمان الأسرار، من حياة الناس، وتحولت الحياة الاجتماعية إلى جحيم لا يطاق(1)
يقول الماوردي: «إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسرّه أميناً، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً، وليتحر المرء في اختيار مَنْ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل مَنْ كان أميناً على الأموال؛ كان على الأسرار مؤتمناً، والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه، بمبادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظاً لَهُ، وضناً به، ولا يرى ما أضاع من سرّه كبيراً، في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عِظَم الضرر الداخل عليه، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذراً، وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق»(2(.
وينبغي التنبيه في هذا المقام إلى أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة(3(.
ونتناول موضوع المحافظة على الأسرار من خلال الأمور الآتية: تعريف السِّر، والمحافظة على الأسرار أمانة عظيمة، وصفات أمين السر، والتحذير من إفشاء الأسرار، ونماذج من السلف في المحافظة على الأسرار.
أ - تعريف السِّر:
1- في اللغة: اسم لما يُسر به الإنسان؛ أي يكتمه، وهو مأخوذ من مادة (س ر ر) التي تدل على إخفاء الشيء(1(.
2- في الاصطلاح: قال الراغب الأصفهاني: «السِّرُّ هو الحديث المُكَتَّمُ في النفس»(2).
ويقول الجاحظ: «كتمان السر خُلُق مركب من الوقار والأمانة؛ فإن إخراج السر من فضول الكلام، وليس بِوَقُورٍ مَنْ تكلم بالفُضُول. وأيضاً فكما أنه من استودع مالاً فأخرجه إلى غير مودعه فقد خفر الأمانة؛ كذلك من استودع سراً فأخرجه إلى غير صاحبه فقد خفر الأمانة، وكتمان السر محمود من جميع الناس، وخاصة ممن يصحب السلطان؛ فإن إخراجه أسراره مع أنه قبيح في نفسه يؤدي إلى ضرر عظيم يدخل عليه من سلطانه»(3)
ب - المحافظة على الأسرار أمانة عظيمة:
حفظ الأسرار وكتمانها أمانة عظيمة، يجب الوفاء بها، وقد حثَّنا الشرع عليها، وحذَّرنا من فشو الأسرار والتفريط فيها، قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34]، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان»(4).
وعلى من أُودِعَ سراً أن يحافظَ عليه ولا يفشيه أبداً، وإلا أصبح خائناً، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا ائتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أربعٌ من كُنَّ فيه كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وإِذَا خَاصَمَ فَجَر»(5)، وجاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «.. إِنَّ بَعْدَكُم يَخُونُونَ ولا يُؤتمنُونَ»(6).
ويقول الكفوي عن عظم المحافظة على الأسرارِ والحذرِ من التساهلِ في التفريطِ فيها: «أوكد الودائع كتم الأسرار»(7).
ولذا؛ فإن المحافظة على الأسرار أمر عظيم لا يقوم به إلا الخلَّص من الناس، وقد أجاب الراغب الأصفهاني عن سبب التفريط الشنيع في المحافظة على الأسرار بقوله: «إن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن الله تعالى وكَّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار مَنْ تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يُمسكها ولا يُطلقها إلا حيثما يجب إطلاقها»(8.)
ولِيُعْلَم أن أمناء الأسرارِ عزيزٌ وجودهم، فهم أقل وجوداً من أمناء الأحوال، «وحفظ المال أيسر من كتم الأسرار»(9).
ج - صفات أمين السِّر:
قد تدعو الضرورة بعض الناس إلى الإفضاء بأسرارهم إلى بعض أصدقائهم من أجل مشورتهم أو تخفيف بعض همومهم، لكن عليه أن يتخير صاحب السِّر، من وُصِفَ بالأمانة والدِّينِ والعقلِ. ويذكر الماوردي بعض الخصال في صفات أمين السر، أن يكون: «ذا عقل صاد، ودين حاجز، ونصح مبذول، وود موفور، وكتوماً بالطبع»(10).
ومما ينبغي التنبه إليه في المحافظة على الأسرار وتخير صفات أمين السر ما يأتي:
1- عدم إيداع السر إلى من يتطلع إليه، ويؤثر الوقوف عليه:
قال الشاعر:
لا تُذِعْ سراً إلى طالبه منك * * * فالطالب للسر مذيع
2- عدم كثرة المستودَعين للسر، فإن كثرتهم سبب الإذاعة؛ إذ القليل منهم الذي يحافظ على السر(11.)
وقال الشاعر:
فلا تنطِق بسرك كلُّ سرٍّ * * * إذا ما جاوز الاثنين فاشي
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : «القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه»(12).
وقال الشاعر:
إِذَا ضَاقَ صَدر المرء عَن سِر نَفسِهِ * * * فَصَدر الذِي يستودع أَضيَق
وحكي أن رجلاً أَسَرَّ إلى صديق لَهُ حديثاً، ثم قال: «أفهمتَ؟ قال: بل جهلتُ، قال: أحفظتَ؟ قال: بل نسيتُ»(1)، وهو بهذا يُكَنّي عن نفسه بعدم البوح لأي أحد.
د - التحذير من إفشاء الأسرار:
تعقد المجالس بالأمانة على ما يجري فيها من أمور، فيجب على الجالس أن يحفظ أسرارها، ولا يحل لَهُ أن يُفشي عن إخوانه ما لا يحبّون أن يخرج عنهم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم-' قال: «إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ»(2)، قال المباركفوري في شرحه للحديث: «تَحْسُنُ المَجَالسُ، أو حُسْنُ المجَالسِ وشَرَفُها، بأَمَانة حَاضِريها على ما يقع فيها من قَول وفعل. فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه ويراه»(3.)
ويؤكد هذا المعنى العظيم الحسن البصري بقوله: «إنما تُجالسون بالأمانة، كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا»(4.)
ومن هنا؛ فإن حفظ الأسرار أمانة كبرى يجب رعايتها، والحذر من إفشاء ما يُدار في المجالس من أمور وأخبار مهمة رُبَمَا يُعَدُّ كشفُها خيانة صغرى أو كبرى.
$ ومن الأمور التي يجدر التنبيه إليها في هذا الخصوص:
1- كشف السر خيانة صغرى:
ورد في سبب نزول قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري رضي الله عنه، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أن ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم، فقالوا: يا أبا لبابة، ما ترى أَنَنْزِل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه - أنه الذبح فلا تفعلوا -. ثم ندم بعد ذلك وقال: والله! ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله»(5)، فإن أبا لبابة -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم الحكم في يهود بني قريظة بأنه الذبح! ولكنه أشار بيده إلى حلقه، فكان ذلك منه خيانة لأمانة المجلس(6.)
2- كشف السر خيانة كبرى:
حفظ أسرار المجالس أمانة كبرى يجب رعايتها، وعدم إفشاء ما يُدار فيها من أمور وأخبار مهمة ربما يصلُ كشفُها إلى الخيانة الكبرى، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، في نقله لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفتح مكة إلى زعمائها(7)؛ إذْ إن حاطباً ممن أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بوجهته إلى مكة، وهو ما جاء في سبب نزول(8) قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) " الممتحنة: 1".
2- حفظ أسرار الزوجين:
الرجل والمرأة مؤتمنان على حفظ أسرار كل منهما، ويجب عليهما أن يحرصا أشد الحرص على عدم إفشائها، ولا شك أن حفظ سر الزوجين من أخص خصائص كل منهما تجاه الآخر، ومن أكثرها إسهاماً في ديمومة الحياة الزوجية واستقرارها، ويدخل في المحافظة على الأسرار ستْر العورات في العلاقات الزوجية كما في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ من(9) أعظمِ الأمانَةِ عند اللهِ يوم القيامةِ، الرجل يُفْضِي إلى امرأتِهِ وتُفْضِي إليهِ ثم يَنْشُرُ سِرَّهَا» وفي رواية : «إنَّ من أَشَرِّ النَّاس عند اللهِ مَنزِلَة يَوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها»(10.)
وقال جرير يرثِي امرأته في عفافها ومحافظتها على حديثه:
كَانَت إذا هَجَرَ الخَليل فِرَاشَهَا* * * خَزْنَ الحَدِيثِ وعفَّت الأسرارِ(1)
ه نماذج من أخلاق السلف في المحافظة على الأسرار:
إن حفظ الأسرار وكتمانها من الأخلاق العظيمة التي تُعْلِي من شيم أصحابها وشمائل صفاتهم، فقد كان الصحابة والصحابيات رضي الله عنهم جميعاً - مضرب المثل في حفظ الأسرار التي يؤتمنون عليها.
فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما - أمين سِرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره(2).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - أن عمر حين تَأَيَّمَتْ بنته حفصة رضي الله عنها، قال: «أتيتُ عثمان بن عفان، فَعَرَضْتُ عليه حَفْصَةَ، فقال: سأنظر في أمري. فلبثت لياليَ ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوجَ يومي هذا. قال عمر: فلقيتُ أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئتَ زَوَّجْتُكَ حفصةَ بنتَ عمرَ، فَصَمَتَ أبو بكرٍ، فلم يرجعْ إليَّ شيئاً، وكنتُ أَوْجَدَ عليهِ مني على عثمانَ، فلبثتُ لياليَ، ثم خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنكحتُها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لقد وَجَدْتَ عليَّ حينَ عَرَضْتَ عليَّ حفصةَ فلم أرجعْ إليكَ شيئاً؟ قال عمر: قلت: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجعَ إليكَ فيما عرضتَ عليّ إلاَّ أنِّي كنتُ علمتُ أَنَّ رسول -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكنْ لأفْشِيَ سِرَّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو تركَهَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَبِلْتُهَا»(3.)
وهذه فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنها - تضرب لنا مثالاً في أمانة حفظ السِّر، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : «إِنَّا كُنَّا أزواجِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عنده جميعاً لم تغادرْ منا واحدة، فأقبلت فاطمة - رضي الله عنها - تمشي ما تُخطئ مِشيتَهَا من مِشيةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فلما رآها رحَّب، قال: مرحباً بابنتي. ثم أجلسَها عن يمينه أو عن شماله ثم سَارَّهَا، فَبَكَت بُكاءً شديداً، فلما رأى حُزْنَها سَارَّهَا الثانية، فإذا هي تضحك. فقلت لها: أنا من نسائه خَصَّك رسول الله بالسِّرِ من بيننا ثم أنت تبكين! فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألتُها عَمَّا سَارَّهَا؟ قالت: ما كُنتُ لأفشي على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سِرَّهُ. فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني! قالت: أما الآن فنعم. فأخبرتني قالت: أما حين سارَّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعمَ السلفُ أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارَّني بالثانية، قال: يا فاطمة! ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة!»(4).
ولا يتوقف الأمر على أمانة حفظ الأسرار عند الرجال والنساء من الصحابة بل حتى الغلمان، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه الغلام الصغير الذي يخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أَسَرَّ إِلَيَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سِراً فما أخبرتُ به أحداً بعدهُ، ولقد سألتني أم سُلَيم فما أخبرتُها به»(5).
وفي الختام: على المرء أن يتخير الأمين لسِرِّهِ، وكما قال عامر بن الطفيل:
إذا أنت لم تجعلْ لسركَ جُنَّةً * * * تعرَّضتَ أن تُرْوى عليكَ العَجَائِبُ
وأن كل امرئ عهد إليه بسِرٍّ يجب أن يحفظه؛ سواء حاكماً أو طبيباً أو موظفاً أو عاملاً..، وكما قيل: «قلوب العقلاء، حصون الأسرار»(6).
وما أجمل قول حسان في حفظ الأمين للسر:
وأمينٍ حَفَّظته سِرَّ نفسي* * * فوعاهُ حِفْظَ الأمينِ الأمينَا(7)
وإن المحافظة على الأسرار من أعظم الأمانات في العلاقات؛ ليس على المستوى الفردي فحسب؛ بل على مستوى الدول والحكومات، وكم من أسرار كُشفت للخصوم والأعداء؛ سبَّبت الذل والهوان لأفراد وشعوب وأمم!
ونؤكد أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى، أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة.
تعد المحافظة على الأسرار خاصية إنسانية في العلاقات الاجتماعية؛ من حيث تعامل الفرد مع الآخرين، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، والأسرار لها أهمية كبيرة في الأمم، فهي من أعظم أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح.
ومن هنا فرعاية الإسلام للمحافظة على الأسرار يستهدف من ورائها تكوين المجتمع الإسلامي، ووضع التشريعات الضابطة لحماية العلاقات وتنميتها أمر لازم لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المعنوية.
ولو أُهملت المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، وسُمح للخيانة وفشو الأسرار بالانتشار؛ لزالت المعاني الإنسانية، كالأمانة وكتمان الأسرار، من حياة الناس، وتحولت الحياة الاجتماعية إلى جحيم لا يطاق(1)
يقول الماوردي: «إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسرّه أميناً، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً، وليتحر المرء في اختيار مَنْ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل مَنْ كان أميناً على الأموال؛ كان على الأسرار مؤتمناً، والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه، بمبادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظاً لَهُ، وضناً به، ولا يرى ما أضاع من سرّه كبيراً، في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عِظَم الضرر الداخل عليه، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذراً، وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق»(2(.
وينبغي التنبيه في هذا المقام إلى أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة(3(.
ونتناول موضوع المحافظة على الأسرار من خلال الأمور الآتية: تعريف السِّر، والمحافظة على الأسرار أمانة عظيمة، وصفات أمين السر، والتحذير من إفشاء الأسرار، ونماذج من السلف في المحافظة على الأسرار.
أ - تعريف السِّر:
1- في اللغة: اسم لما يُسر به الإنسان؛ أي يكتمه، وهو مأخوذ من مادة (س ر ر) التي تدل على إخفاء الشيء(1(.
2- في الاصطلاح: قال الراغب الأصفهاني: «السِّرُّ هو الحديث المُكَتَّمُ في النفس»(2).
ويقول الجاحظ: «كتمان السر خُلُق مركب من الوقار والأمانة؛ فإن إخراج السر من فضول الكلام، وليس بِوَقُورٍ مَنْ تكلم بالفُضُول. وأيضاً فكما أنه من استودع مالاً فأخرجه إلى غير مودعه فقد خفر الأمانة؛ كذلك من استودع سراً فأخرجه إلى غير صاحبه فقد خفر الأمانة، وكتمان السر محمود من جميع الناس، وخاصة ممن يصحب السلطان؛ فإن إخراجه أسراره مع أنه قبيح في نفسه يؤدي إلى ضرر عظيم يدخل عليه من سلطانه»(3)
ب - المحافظة على الأسرار أمانة عظيمة:
حفظ الأسرار وكتمانها أمانة عظيمة، يجب الوفاء بها، وقد حثَّنا الشرع عليها، وحذَّرنا من فشو الأسرار والتفريط فيها، قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34]، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان»(4).
وعلى من أُودِعَ سراً أن يحافظَ عليه ولا يفشيه أبداً، وإلا أصبح خائناً، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا ائتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أربعٌ من كُنَّ فيه كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وإِذَا خَاصَمَ فَجَر»(5)، وجاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «.. إِنَّ بَعْدَكُم يَخُونُونَ ولا يُؤتمنُونَ»(6).
ويقول الكفوي عن عظم المحافظة على الأسرارِ والحذرِ من التساهلِ في التفريطِ فيها: «أوكد الودائع كتم الأسرار»(7).
ولذا؛ فإن المحافظة على الأسرار أمر عظيم لا يقوم به إلا الخلَّص من الناس، وقد أجاب الراغب الأصفهاني عن سبب التفريط الشنيع في المحافظة على الأسرار بقوله: «إن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن الله تعالى وكَّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار مَنْ تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يُمسكها ولا يُطلقها إلا حيثما يجب إطلاقها»(8.)
ولِيُعْلَم أن أمناء الأسرارِ عزيزٌ وجودهم، فهم أقل وجوداً من أمناء الأحوال، «وحفظ المال أيسر من كتم الأسرار»(9).
ج - صفات أمين السِّر:
قد تدعو الضرورة بعض الناس إلى الإفضاء بأسرارهم إلى بعض أصدقائهم من أجل مشورتهم أو تخفيف بعض همومهم، لكن عليه أن يتخير صاحب السِّر، من وُصِفَ بالأمانة والدِّينِ والعقلِ. ويذكر الماوردي بعض الخصال في صفات أمين السر، أن يكون: «ذا عقل صاد، ودين حاجز، ونصح مبذول، وود موفور، وكتوماً بالطبع»(10).
ومما ينبغي التنبه إليه في المحافظة على الأسرار وتخير صفات أمين السر ما يأتي:
1- عدم إيداع السر إلى من يتطلع إليه، ويؤثر الوقوف عليه:
قال الشاعر:
لا تُذِعْ سراً إلى طالبه منك * * * فالطالب للسر مذيع
2- عدم كثرة المستودَعين للسر، فإن كثرتهم سبب الإذاعة؛ إذ القليل منهم الذي يحافظ على السر(11.)
وقال الشاعر:
فلا تنطِق بسرك كلُّ سرٍّ * * * إذا ما جاوز الاثنين فاشي
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : «القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه»(12).
وقال الشاعر:
إِذَا ضَاقَ صَدر المرء عَن سِر نَفسِهِ * * * فَصَدر الذِي يستودع أَضيَق
وحكي أن رجلاً أَسَرَّ إلى صديق لَهُ حديثاً، ثم قال: «أفهمتَ؟ قال: بل جهلتُ، قال: أحفظتَ؟ قال: بل نسيتُ»(1)، وهو بهذا يُكَنّي عن نفسه بعدم البوح لأي أحد.
د - التحذير من إفشاء الأسرار:
تعقد المجالس بالأمانة على ما يجري فيها من أمور، فيجب على الجالس أن يحفظ أسرارها، ولا يحل لَهُ أن يُفشي عن إخوانه ما لا يحبّون أن يخرج عنهم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم-' قال: «إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ»(2)، قال المباركفوري في شرحه للحديث: «تَحْسُنُ المَجَالسُ، أو حُسْنُ المجَالسِ وشَرَفُها، بأَمَانة حَاضِريها على ما يقع فيها من قَول وفعل. فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه ويراه»(3.)
ويؤكد هذا المعنى العظيم الحسن البصري بقوله: «إنما تُجالسون بالأمانة، كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا»(4.)
ومن هنا؛ فإن حفظ الأسرار أمانة كبرى يجب رعايتها، والحذر من إفشاء ما يُدار في المجالس من أمور وأخبار مهمة رُبَمَا يُعَدُّ كشفُها خيانة صغرى أو كبرى.
$ ومن الأمور التي يجدر التنبيه إليها في هذا الخصوص:
1- كشف السر خيانة صغرى:
ورد في سبب نزول قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري رضي الله عنه، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أن ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم، فقالوا: يا أبا لبابة، ما ترى أَنَنْزِل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه - أنه الذبح فلا تفعلوا -. ثم ندم بعد ذلك وقال: والله! ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله»(5)، فإن أبا لبابة -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم الحكم في يهود بني قريظة بأنه الذبح! ولكنه أشار بيده إلى حلقه، فكان ذلك منه خيانة لأمانة المجلس(6.)
2- كشف السر خيانة كبرى:
حفظ أسرار المجالس أمانة كبرى يجب رعايتها، وعدم إفشاء ما يُدار فيها من أمور وأخبار مهمة ربما يصلُ كشفُها إلى الخيانة الكبرى، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، في نقله لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفتح مكة إلى زعمائها(7)؛ إذْ إن حاطباً ممن أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بوجهته إلى مكة، وهو ما جاء في سبب نزول(8) قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) " الممتحنة: 1".
2- حفظ أسرار الزوجين:
الرجل والمرأة مؤتمنان على حفظ أسرار كل منهما، ويجب عليهما أن يحرصا أشد الحرص على عدم إفشائها، ولا شك أن حفظ سر الزوجين من أخص خصائص كل منهما تجاه الآخر، ومن أكثرها إسهاماً في ديمومة الحياة الزوجية واستقرارها، ويدخل في المحافظة على الأسرار ستْر العورات في العلاقات الزوجية كما في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ من(9) أعظمِ الأمانَةِ عند اللهِ يوم القيامةِ، الرجل يُفْضِي إلى امرأتِهِ وتُفْضِي إليهِ ثم يَنْشُرُ سِرَّهَا» وفي رواية : «إنَّ من أَشَرِّ النَّاس عند اللهِ مَنزِلَة يَوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها»(10.)
وقال جرير يرثِي امرأته في عفافها ومحافظتها على حديثه:
كَانَت إذا هَجَرَ الخَليل فِرَاشَهَا* * * خَزْنَ الحَدِيثِ وعفَّت الأسرارِ(1)
ه نماذج من أخلاق السلف في المحافظة على الأسرار:
إن حفظ الأسرار وكتمانها من الأخلاق العظيمة التي تُعْلِي من شيم أصحابها وشمائل صفاتهم، فقد كان الصحابة والصحابيات رضي الله عنهم جميعاً - مضرب المثل في حفظ الأسرار التي يؤتمنون عليها.
فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما - أمين سِرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره(2).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - أن عمر حين تَأَيَّمَتْ بنته حفصة رضي الله عنها، قال: «أتيتُ عثمان بن عفان، فَعَرَضْتُ عليه حَفْصَةَ، فقال: سأنظر في أمري. فلبثت لياليَ ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوجَ يومي هذا. قال عمر: فلقيتُ أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئتَ زَوَّجْتُكَ حفصةَ بنتَ عمرَ، فَصَمَتَ أبو بكرٍ، فلم يرجعْ إليَّ شيئاً، وكنتُ أَوْجَدَ عليهِ مني على عثمانَ، فلبثتُ لياليَ، ثم خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنكحتُها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لقد وَجَدْتَ عليَّ حينَ عَرَضْتَ عليَّ حفصةَ فلم أرجعْ إليكَ شيئاً؟ قال عمر: قلت: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجعَ إليكَ فيما عرضتَ عليّ إلاَّ أنِّي كنتُ علمتُ أَنَّ رسول -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكنْ لأفْشِيَ سِرَّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو تركَهَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَبِلْتُهَا»(3.)
وهذه فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنها - تضرب لنا مثالاً في أمانة حفظ السِّر، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : «إِنَّا كُنَّا أزواجِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عنده جميعاً لم تغادرْ منا واحدة، فأقبلت فاطمة - رضي الله عنها - تمشي ما تُخطئ مِشيتَهَا من مِشيةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فلما رآها رحَّب، قال: مرحباً بابنتي. ثم أجلسَها عن يمينه أو عن شماله ثم سَارَّهَا، فَبَكَت بُكاءً شديداً، فلما رأى حُزْنَها سَارَّهَا الثانية، فإذا هي تضحك. فقلت لها: أنا من نسائه خَصَّك رسول الله بالسِّرِ من بيننا ثم أنت تبكين! فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألتُها عَمَّا سَارَّهَا؟ قالت: ما كُنتُ لأفشي على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سِرَّهُ. فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني! قالت: أما الآن فنعم. فأخبرتني قالت: أما حين سارَّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعمَ السلفُ أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارَّني بالثانية، قال: يا فاطمة! ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة!»(4).
ولا يتوقف الأمر على أمانة حفظ الأسرار عند الرجال والنساء من الصحابة بل حتى الغلمان، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه الغلام الصغير الذي يخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أَسَرَّ إِلَيَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سِراً فما أخبرتُ به أحداً بعدهُ، ولقد سألتني أم سُلَيم فما أخبرتُها به»(5).
وفي الختام: على المرء أن يتخير الأمين لسِرِّهِ، وكما قال عامر بن الطفيل:
إذا أنت لم تجعلْ لسركَ جُنَّةً * * * تعرَّضتَ أن تُرْوى عليكَ العَجَائِبُ
وأن كل امرئ عهد إليه بسِرٍّ يجب أن يحفظه؛ سواء حاكماً أو طبيباً أو موظفاً أو عاملاً..، وكما قيل: «قلوب العقلاء، حصون الأسرار»(6).
وما أجمل قول حسان في حفظ الأمين للسر:
وأمينٍ حَفَّظته سِرَّ نفسي* * * فوعاهُ حِفْظَ الأمينِ الأمينَا(7)
وإن المحافظة على الأسرار من أعظم الأمانات في العلاقات؛ ليس على المستوى الفردي فحسب؛ بل على مستوى الدول والحكومات، وكم من أسرار كُشفت للخصوم والأعداء؛ سبَّبت الذل والهوان لأفراد وشعوب وأمم!
ونؤكد أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى، أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة.